جارٍ تحميل التاريخ...

العطاء الواجب: تنمية ووقاية – ذ. محمد درقاوي

العطاء الواجب: تنمية ووقاية – ذ. محمد درقاوي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

السادة الأئمة الكرام؛

يقول الحق سبحانه: ﴿ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِۖ فَالذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمُۥٓ أَجْرٞ كَبِيرٞۖ[الحديد: 7].

قرر القرآن الكريم في النفوس بما يفيد اليقين أن المال إنما هو مال الله، والناس عيال فيه، وجعل الإيمان بهذا نقطة الانطلاق في تحقيق التضامن، والتكافل، والتخلي عن الشح، والبخل، والأنانية.

فالمالك الحقيقي هو الحق سبحانه، والمستخلَف إنما هو مالك اعتباري، وإن جمع فأوعى، وإن كان تحت يده وتصرفه، ولا يصل إليه أحد غيره، وهذا من تجليات الإيمان الحق المطابق للعقيدة، إذ يعلم صاحب المال أن الله هو الرزاق؛ أعطاه وطالبه أن ينفق مما أعطاه، قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَّاتِيَ أَحَدَكُمُ اُ۬لْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَآ أَخَّرْتَنِےٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ اَ۬لصَّٰلِحِينَۖ [المنافقون: 10].

هذه الملكية مؤقتة والمستخلَف فيها وكيل، والوكيل هو من فوَّض إليه غيرُه ليتولى الأمر عنه ولا يُختار لذلك إلا من كان أهلا، فلا يتعدى ولا يتجاوز ولا يظلم ولا يبخل.

إن قضية الإنفاق لابد أن تكون من صميم التصور الإيماني، ويظهر ذلك في أمور عملية واعتقادية يمكن بيانها وفق ما يلي:

  • أن المنفق يعلم أنه وكيل ومستخلَف؛
  • أنّ المنفق مؤمن من جهة أن الله يُخلف له ما أنفق؛
  • أن المنفق مؤمنٌ أن غضب الله يُتقى بالإنفاق وأن الصدقة تُطفئ غضب الرب؛
  • أن المنفق يحقق ولاية الرحمن له، قال تعالى: ﴿اِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اُ۬للَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَالذِينَ ءَامَنُواْ اُ۬لذِينَ يُقِيمُونَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُونَ اَ۬لزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَٰكِعُونَۖ [المائدة: 57]؛
  • أن المنفق حقق مقام الإحسان الجالب لمحبة الله تعالى ﴿اَ۬لذِينَ يُنفِقُونَ فِے اِ۬لسَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَٰظِمِينَ اَ۬لْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ اِ۬لنَّاسِۖ وَاللَّهُ يُحِبُّ اُ۬لْمُحْسِنِينَۖ [آل عمران: 134]؛
  • أن المنفق يؤمن بمفهوم البركة الذي هو غيبي التركيب مادي الاعتبار، ويتجلى في أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، حيث يتقوى إيمان المؤمن بالإنفاق وتبتعد نفسه عن الطغيان والشح والتعدي والاستكبار ﴿إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَيَطْغ۪ىٰٓ أَن رّ۪ء۪اهُ اُ۪سْتَغْن۪ىٰٓۖ[العلق: 6-7]؛

قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ اَ۬لَارْضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ اُ۬لْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِۖ وَاعْلَمُوٓاْ أَنَّ اَ۬للَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌۖ [البقرة: 266].

حين تحدث الحق سبحانه وتعالى في سورة الليل عن أنواع الناس؛ ذكر النوع الذي يعيش لينفق ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وهو من يسر له ربه سبحانه سبل السعادة، وحسن الحال وجودة الحياة في العاجلة قبل الآجلة، فيعلم أن الإنفاق سبيل التيسير.

 وكل من ظن أن الدين سجود، وركوع، وصيام، وحج، وعمرة فقد وهم، الدين حياة يبدأ من مد المساعدة، والإحسان إلى الضعيف إلى القيم والأخلاق إلى المعاملات المالية.

 إن السلعة الغالية التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تُشترى بمثل هذا الفهم الشمولي للدين، أي إن الدين للحياة، والحياة للدين، دين يقوم على الإيمان، والعمل الصالح، وأبرز ثمار ذلك هو الإنفاق.

والإنفاق قد يكون على النفس، وقد يتعدى للغير، وكلاهما يجلب مصالح العاجلة والآجلة، وبه تُدفع مفاسد البخل، والشح، والأنانية.

ويُستدل بالصدقة على صدق الإيمان وتمكُّنه من القلب، ويركن إليها المؤمن دليلا إذ سيسأل عن ماله فيم أنفقه. فيجد الجواب في عقيدته سليما قبل سلوكه، ويُستدل بالصدقة على صدق الإيمان لأن المال محبوب النفوس، ومن أجله تُفنى الأوقات والأعمار، وتكون بسببه المخاطرة، فإن أخرجه العبد لربه صدقة وزكاة؛ دل ذلك على قوة الإيمان في قلبه، وتصديقه بوعده أنه ملاقيه ومخلف له ما أنفقه.

بعد أن تحدث الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ) عن الإنفاق الممدوح والمذموم، وصف الأول بأنه “ما يُكسب صاحبه العدالة، وهو بذل ما أوجبت الشريعة بذله؛ كالصدقة المفروضة، والإنفاق على العيال، ومنه ما يكسب صاحبه الحرية، وهو بذل ما ندبت الشريعة إلى بذله، فهذا يكسب من الناس شكرا، ومن ولي النعمة أجرا.” ثم تحدث رحمه الله عن المذموم، وخص فيه كلاما عن التبذير، والإسراف نذكره في محله.

ثم تحدث بعد ذلك عن حقيقة السخاء، والجود، والشح، والبخل، ووصف السخاء بأنه هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات؛ حصل معه البذل أو لم يحصل، وذلك خلق، ويقابله الشح والبخل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» ([1]).

فخص المطاع لينبه أن الشح في النفس ليس مما يستحق به الندم، إذ ليس هو من فعله وإنما يذم بالانقياد له.

ثم لما تحدث رحمه الله عن الجود قال: “وحُق للجود أن يقترن بالإيمان فلا شيء أخص به وأشد مجانسة له منه، فمن صفة المؤمن انشراح الصدر ﴿فَمَنْ يُّرِدِ اِ۬للَّهُ أَنْ يَّهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلِاسْلَٰمِۖ وَمَنْ يُّرِدَ اَنْ يُّضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقاً حَرِجاٗ [الأنعام: 126].

هما من صفات الجواد والبخيل، والجواد يوصف بسعة الصدر للإنفاق، والبخيل يوصف بضيق الصدر للإمساك.

وقد يلتبس على البعض إصرار القرآن الكريم على خلق الإنفاق، وهو نزل في مجتمع أَكثَرَ شعراؤه من وصفه بالجود والكرم، ويمكن توضيح هذا الالتباس من خلال بيان أن الإنفاق الذي جاء به الإسلام قضية إيمانية خلافا للكرم الجاهلي الذي كان يرادف السيادة والمجد.

سأل عَدِي بن حاتم الطائي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم وكان يفعل ويفعل قال: «إن أباك أراد أمرًا فأدركه يعني الذكر»[2].

كما أن العربي في الجاهلية جعل كرمه خاصا بالضيف ليوسع الإسلام من دائرة المستهدفين بالإنفاق، وفصل فيهم، ونوع أحوالهم ﴿يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٖ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ وَالْيَتَٰم۪ىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ اِ۬لسَّبِيلِۖ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٖ فَإِنَّ اَ۬للَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞۖ [البقرة: 213].

 

كما أن معيار الصدقة قليلها وكثيرها صححه الإسلام، فالعربي في الجاهلية ما كان يرضى أن يمد القليل؛ بل قد يتحول ذلك إلى سبة تتناقلها الأشعار؛ فجاء الإسلام بما يفيد أن صاحب الدرهم قد يسبق صاحب الألف درهم.

ثم تظهر قيمة أخرى لم يكن للعرب في الجاهلية كبير دراية بها وهي قضية الرياء، وكيف يمكن أن تكون محبطة لإنفاق المنفقين، ويفصل القرآن الكريم في صدقة السر، وصدقة العلانية، ومسلك كل واحدة منهما.

وتظهر رذيلة المن في تصحيح الإسلام للمفاهيم ذات الصلة، وتجعلها النصوص الشرعية مبطلة مؤذية لا تتحقق ثمار الإنفاق بحضورها.

 يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام (ت 660 هـ)، “والصدقة كلها معونة، وإرفاق؛ فلا فرق بين المنافع والأعيان، وفضائلها تتقرر بشرف المبذول، والمبذول له، وتشرف بسد الخلة التي تسدها؛ فإطعام المضطر أفضل من إطعام المحتاج؛ لأن فيه حفظ الروح”.

وهذا الذي ذكره سلطان العلماء هو ما أشار إليه الحديث الذي رواه ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: «إن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على المؤمن تكشف عنه كربا أو تقضي عنه دينا أو تطرد به جوعا»([3]).

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وفي حديث سيد الأولين والآخرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

([1]) أخرجه الطبراني في (المعجم الأوسط)  (5754).

[2] أخرجه أحمد (19374) وابن حبان (332).

([3])  القضاعي في (مسند الشهاب) (1234)، والطبراني في (المعجم الأوسط) (5787).


تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)